" رحلة المائة وخمسين يوماً.! "
بقلم: سارة العمري
لم يكن يدور بخلدها ولا بخلدنا أن الإصابة بوعكة صحية عابرة، ستكون بداية لرحلة طويلة وشاقة.
كانت بداية فصول هذه الرحلة الانسانية المؤلمة قبل خمسة أشهر.
مكانها أروقة ودهاليز المستشفى العسكري بالرياض.
مراحلها تتفاوت بين ألمٍ وأمل، خوفٍ ورجاء، صبر ودعاء، رضى واحتساب، ترقب وحذر، قلق وانتظار.
من
فضل الله علينا ، لم يشوب تلك الرحلة اعتراض ولا سخط، ولا يأس ولا قنوط،
بل كان يسودها الرضى بما قضى الله، والقناعة بخيرية ما أختار، واليقين بأن
كل شيء بيده وكل تدبير بأمره.!
ما سأطرحه هنا ليس تذمراً ولا اعتراضا، ليس شكوى ولا امتعاضا، ليست رواية من نسج الخيال، ولا حكاية للتسلية وملء أوقات الفراغ.
بل هي قصة حقيقية عايشتها يوما بيوم ولحظة بلحظة، خرجت منها بدروس وعظات، وأحببت أن أوجه من خلالها رسائل وعبر.
رسالة إلى كل مبتلى علها تكون تخفيفاً وعوناً له بعد الله في مواجهة مرضه.
وتمهيداً
لكل عائلة قد تواجه هذا المرض، فكلنا معرضون للبلاء والابتلاء في هذه
الحياة، لعلها تصبرهم وتعطيهم فكرة عما سيواجهونه ويعانونه.
كما إنها بشارة إلى كل من يقاسي ويلات هذا المرض بأن الله لم يبتليه الا لأنه يحبه.!
فالأزمات والمحن وإن كانت في ظاهرها قاسية ومؤلمة، فإن في طياتها من المنح والأجر والمثوبة مالا يعلمه الا الله.
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله: "مصيبة تقبل بها على الله خير لك من نعمة تنسيك ذكر الله"
وهل هناك أمثل وأفضل من مواساة الحبيب وتوجيهه صلى الله عليه وسلم، فعَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ: (
الأَنْبِيَاءُ , ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ , فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ
عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ ,
وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَمَا
يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ
مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ )
وروي أن رجلًا قال يا رسولَ اللهِ:
ذهبَ مالِي وسقمَ جسدِي فقال: (لا خيرَ في عبدٍ لا يَذهبُ مالُهُ ولا يسقمُ جسدُهُ إنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبدًا ابتلاهُ فإن صبَر اجتباه وإن رَضِيَ اصطفاه).
كما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: (يَوَدُّ
أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ
الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا
بِالمَقَارِيضِ).
وأحاديث إمام الصابرين عليه أفضل الصلاة والسلام، التي وردت في هذا الباب لا يمكن حصرها هنا.
بداية
القصة في ذلك اليوم الذي تلقيت فيه اتصالها المؤلم الذي أخبرتني فيه
بتحويلها العاجل من قبل دكتورتها في مستوصف الحي إلى أقرب مستشفى ، وأكدت
عليها بقلق وحرصت على ضرورة مراجعتها للمستشفى في نفس اليوم، وعاودت
الإتصال بها مساءً للتأكد من ذهابها، منذ ذلك اليوم بدأت الرحلة، وتيقنت
بأن هناك أمر جلل.!
أجريت الفحوصات الأولية ولازال لدينا أمل بأن النتائج مطمئنة، ولكن للأسف تم الاشتباه وبنسبة كبيرة في مرض ما.!
عندها
بدأت أولى مراحل الرحلة، فكان موعد "الخزعة ، العينة" ، واتجهنا للمستشفى،
و لن أنسى ذلك القلق والترقب في عينيها والذي كانت تحرص أن تخفيه
بابتسامتها الدائمة، ولا حرج عليها إن توجست فهي تواجه المجهول.!
أخذنا
ننتظر وننتظر حتى أتانا الدور، أدخلوها ومنعوني من الدخول، فكنت أتسلل بين
الحين والحين لأنظر إليها من وراء الستارة فتطمئن نفسها وتبتسم فتهدأ نفسي
أنا كذلك، تم أخذ العينة بسلام ولله الحمد وخرجنا مرتاحين نوعاً ما.
وبعد عدة أيام ظهرت نتيجة العينة وللأسف ثبت وجود المرض الخبيث.؟!
ولكن سبحان من ينزل الصبر على قدر المصيبة، فكلما كبرت المصيبة كان الصبر أكبر.
( وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا
لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون أُوَلَئِكَ عَلَيْهمْ صَلَوَاتٌ مّن
رِّبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وَأُلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدْوُنْ ).
ولموعد الفحص النووي، وتلك اللوحات التحذيرية والرسومات المخيفة، التي تشعرك بالرعب والقلق وكأنك تدخل مفاعلاً نووياً حكاية أخرى.!
كنت
أرى ألاف التساؤلات مرسومة على وجهها، يا ترى ما خلف هذه الأبواب المغلقة
وتلك الافتات المرعبة، وبالرغم من كل ذلك فابتسامة الرضى والتفاؤل لم تفارق
محياها.؟!
دخلت
أختي الحبيبة لأخذ الصبغة، وبقيت أنا وقبطان هذه الرحلة "ابنها البار
محمد"، ننتظر في الممر وكل منا يحاول أن يثبت للأخر بأنه الأقوى، كنت
أتحاشى النظر إليه كي لا أضعف وأنا أرى ذلك الكم الهائل من الحزن والقلق في
عينيه، وكان يطلق بعض النكات كي يلطف الجو الذي قد شابته جميع تقلبات
الطقس، من برق ورعد وحرارة وبرد وغيوم وعواصف تعصف بالقلوب والعقول معاً..!
نادت
الممرضة للفحص ووقفنا الثلاثة أمام الباب، ونحن ننتظر هذا الشبح الذي
ينتظرنا داخله، كانت تخشى ألا يسمح بدخول أحدنا معها فما نراه من لافتات
يوحي بالخوف والواقع غير ذلك، وهذه من الأخطاء التي يجب تصحيحها فالمريض في
أمس الحاجة للتطمين لا التخويف.!
أتى صوت الممرضة مثل نسمة عليلة على قلوبنا، "مرافق واحد بس" مباشرة نطق لسانها بالحمد والشكر لله.
دخلت
معها وهنا كان الامتحان الأقوى لي، فقد ارتعدت فرائصها وإزرقت شفتيها
وأخذتها رجفة شديدة، فاستجمعت قواي وسألت الله الثبات وأخذت أصبرها وأشد من
أزرها، وأجتهد في القيام بدور أمي الغائبة لمواساة أخت تكبرني.!!
مرت
تلك الساعات بما فيها من ترقب وخوف وقلق. ذهبت أهيم على وجهي لا أدري ماذا
أفعل وإلى أين اتجه، ضعفت وقتها وشعرت بفقد أمي _رحمها الله_أكثر من أي
وقت مضى، اشتقت أن أرتمي بين أحضانها وأبكي على صدرها، أشكو لها همي وأبث
لها حزني، استمد القوة بعد الله من حنانها والثبات من دعائها.
أخذتني
قدماي لأحدى العيادات التي اعتدت مراجعتها، فوجدت تلك العجوز التي تئن من
الألم، اقتربت منها وكأن آهاتها تخرج من صدري، ولسان حالي يقول: "داوها
بالتي كانت هي الداءُ،!" فإذا أردت مداواة آلآمك فشارك الأخرين ألآمهم.
وضعت
يدي على رأسها وأخذت أقرأ عليها فهدأت نفسها وخفت صوت آهاتها، اقتربت منها
وحاجتي لحنانها أكثر من حاجاتها لمساعدتي، نظرت لي نظرة شكر وامتنان ودعت
تلك الدعوات الحانية، والتي كنت في أمس الحاجة إليها في تلك اللحظة.
ثم
قالت: "يا بنيتي عندي سبعة أولاد ولا معي أحد" فقلت مباشرة: معك الله خير
من الدنيا ومن عليها، اطرقت وهي تتمتم بالحمد لله.. الحمد لله.
وأخذت أقول في نفسي تلك رسائل ربانية، فمن يرى مصائب الناس تهون عليه مصيبته.!
أثبتت جميع الفحوصات الإصابة "بسرطان الثدي".!
اجتمعت اللجنة الطبية وقررت إجراء العملية واستئصال كامل الثدي الأيسر، فسلمنا بقضاء الله وتوكلنا عليه وفوضنا أمرنا إليه.
وفي
آخر موعد لتحديد يوم العملية حصل مالم يكن بالحسبان، حيث بينت أشعة الرنين
المغناطيسي وجود كدمة في الظهر ولابد من أخذ عينة منها.
أخذت
العينة وأثبتت انتقال المرض لإحدى الفقرات، كان ذلك اليوم غير كل الأيام
فقد كان وقع الخبر على العائلة مثل الصاعقة، تحطمنا وخيم الحزن على الجميع،
حاول الشيطان أن يدخل اليأس لقلوبنا ولكن لطف الله أقوى من كيد الشيطان"
إن كيد الشيطان كان ضعيفا".
وهنا
يأتي دور الأسرة من زوج وأبناء وبنات، فقد كان لمواساتهم والتفافهم حولها
والإيحاء لها بتفاؤلهم وثقتهم بشفائها، ودعمها نفسياً وخلق روح التفاؤل
داخلها، الدور الأكبر بعد الله في تجاوزها للصدمة.
جاء
اليوم الموعود يوم العملية وكانت ليلتها من أقسى الليالي وأشدها كربة فلم
أهنأ براحة ولم أتلذذ بنوم وكانت الأفكار تتلاطم في داخلي كموج بحر هائج.!
كان
موعد دخول غرفة العمليات عند الساعة الثامنة صباحاً، وكنت محتارة بين
أمرين أحلاهما مر، فرغبتي الملحة أن أراها قبل التخدير، ولكن حالتي النفسية
صعبة جداً، فلن أستطيع تمالك نفسي ولا حبس دموعي، مما سيكون له تأثير نفسي
سيئ عليها، وهي في أمسّ الحاجة للدعم والتشجيع أكثر من أي وقت مضى، لذلك
تعمدت التأخير.
دخلت المستشفى عند الثامنة والنصف بعد دخولها غرفة العمليات، وأخذنا ننتظر وما أصعب الانتظار فكأن الدقائق والساعات أيام وشهور.
تجاوزنا
العملية بجميع الآمها ومصاعبها، وأتى موعد جلسات العلاج الكيماوي، والتي
كانت رهبتها أشد وأقسى من رهبة العملية، ذهبنا للجلسة الأولى وكأننا مقدمون
على حرب تأكل الأخضر واليابس، دخلنا للعيادة حذرين متوجسين.!
فتفاجأنا بواقع غير الذي كنا نتخيله ونسمع عنه! وجدنا نساء صابرات محتسبات من مختلف الأعمار، وإذا إحداهن توزع الورود زهرية اللون.
وأخرى توزع نشرات الرقية الشرعية.
وثالثة تصب القهوة، ورابعة توزع تمر العجوة، وخامسة تضيف المعمول.!!
جلسنا بهدوء وحذر وعلامات التعجب على وجوهنا!أخذنا نستمع فلكل واحدة منهن حكاية تختلف عن الأخرى، خرجنا منها بعبر وعظات ودروس ووقفات.
فواحدة تقول عاودني المرض للمرة الثانية بعد ست سنوات من التعافي، فقلت الحمد لله ربي يحبني ويريد أن يقربني منه أكثر.!
وأخرى تقول جزعت وبكيت عندما علمت بمرضي، فقالت لي فتاة صغيرة كانت بجانبي في غرفة التنويم:
والله
لستِ بمؤمنة لو كنتِ مؤمنة لما اعترضتِ على قضاء الله وقدره، فكان كلامها
بمثابة الماء البارد الذي أطفأ نار خوفي وقلقي فرضيت واحتسبت.!
وثالثة
لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها، كلها تفاؤل ورضى والأمل يشع من
عينيها، فباب المستقبل لم يغلق بعد ما دام هناك نبض في قلبها ودم يجري في
عروقها.
أختي الحبيبة: يا بقية من أبي وقطعة من أمي وجزء من روحي.
ها
أنتِ تتجاوزين الجلسة الأولى من الكيماوي ولله الحمد والمنّة، بصدمتها
ومضاعفاتها وآلآمها وآثارها بإيمان وصبر واحتساب، وقد قطعتِ الجزء الأكبر
والأصعب من هذه الرحلة الشاقة، وبمشيئة الله تنهيها وقد اجتمع لك الأجر
والعافية.
أيتها الغالية: كنت أستمد منك قوتي طوال هذه الرحلة وليس العكس، فقد كنتِ أقوى من الجميع، صابرة محتسبة متجلدة.
ضربتِ أروع الأمثلة في حسن الظن بالله وقوة التوكل عليه وتفويض أمرك كله إليه وحده.
ألا بالصبر تبلغ ما تريد ** وبالتقوى يلين لك الحديد
بشراك أُخيتي الحبيبة قول ربك جل في علاه:
( إِنّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) فكل عمل له أجر معلوم الا الصبر فليس لأجره حدود.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج**أبشر بخير فإن الفـارج الله.
اليأس يقطع أحيانا بصاحبـه**لاتيأسـن فـإن الكافـي الله.
الله يحدث بعد العسر ميسـرة**لا تجزعن فـإن القاسـم الله.
إذا بليت فثق بالله وارضَ به**إن الذي يكشف البلوى هو الله.
والله مالك غير الله من أحـد**فحسبك الله في كـلٍ لـك الله.
أختي يا أغلى البشر:
لقد تعلمت منك دروس وعبر..؟! أولها.. إنه من تعرف إلى الله وقت الرخاء تعرف الله إليه وقت الشدة.
إن من صاحب القرآن وقت صحته فلن يتخلى عنه حين مرضه.
من كان له خبيئة من عمل صالح ففي مثل هذه الشدائد الله به ينفعه، فقيامك بين يدي الله بعد أجراء العملية بساعات قليلة، تصلين قيام الليل جعلني أقول هنا يكمن سر الرضى والثبات.!
تعلمت منك التفاؤل والثقة بالله واليقين التام بأنه لايرد من دعاه ولايخيب من رجاه.
تعلمت منك أن أحمد الله وابتسم مهما أشتد الكرب، فاشتداد ظلام الليل ينبئ بقرب طلوع الفجر.
تعلمت وتعلمت وما زلت أتعلم منك الكثير الكثير.. فأنتِ قدوة لنا جميعاً في الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله..
ثقي أنك ما زلتِ تعطينا الدروس تلو الدروس، فاثبتي وكوني القدوة والمثل الأعلى لنا.