الأربعاء، 4 مارس 2020

وعاد الملاك إلى موطنه

وعاد الملاك إلى موطنه

بقلم: سارة العمري


ودعنا الكثير من الراحلين خلال مشوار حياتنا، وكثيراً ما مررنا بشتى أنواع المواقف والأحداث المؤلمة.
لكن هناك أحزانا لم يمر يوم الا وتذكرناها، ولا مناسبة سعيدة أو حزينة الا واجتررنا مرارتها، وتجرعنا حرقتها.!
هناك أحداث دوناها في تاريخ حياتنا بدم قلوبنا ودموع أعيننا، وما كنا نتخيل يوماً أن نمسك بأقلامنا لنخطها ونكتبها ونعبر عنها.

تلك الأحداث هزت دنيانا وبعثرت كياننا وغيرت حياتنا، جعلت قلوبنا ذائبة ومدامعنا سائلة.

وها هي الأحزان والأحداث كلما كاد أن يطوي الزمن صفحتها وكلما أوشكت أن تنطلق لترتمي في أحضان النسيان، هناك حيث ينتهي ويدفن كل شيء؛ سرعان ما يفجعنا القدر بحدث حزين وفقد أليم، فيسرق منا حبيب جديد ويسير به إلى حيث سار الأحبة السابقين.!

‏        هي الأمور كما شاهدتها دولٌ
‏         من سره زمن ساءته أزمانُ

       وهذه الدار لاتُبقي على أحدٍ
        ولايدوم على حالٍ لها شانُ

       فجائعُ الدهر أنواع منوعةٌ
         وللزمان مسراتٌ وأحزانُ.

 قبل أيام ودعنا فقيدتنا الغالية وأختنا الحبيبة " أم مرام " رحمها الله وتغمدها بواسع رحمته.
فارقتنا بلا موعد ودون سابق إنذار، رحلت بلا وداع، فكان رحيلها خفيفا لطيفاً كما كانت حياتها، فلم تكلف أحداً حتى عناء الزيارة.!
قُطفت روحها الطاهرة كما يُقطف غصن ريحان شذي ( فروحٌ وريحان وجنة نعيم ).
وإن كانت فقيدتنا الغالية هادئة الحياة، إلا أن رحيلها خلف ضجيجا ملأ الدنيا وأذهل الناس.!
حيث حزنت لرحيلها النفوس ودمعت لفراقها العيون وتفطرت عند وداعها القلوب، وتركت لنا العبرات في كل صدر أحبها، وكل يدٍ صافحتها، وكل عين التقت بها.

كيف لا وهي تلك "الملاك الطاهر" الذي قل أشباهه وندر أمثاله، نذرت حياتها لإسعاد أهل زوجها الذي هو وحيد والديه، فضربت أروع أنواع الإيثار والبر، صارت لهم البنت البارة التي لم ينجبوها، وأصبحت أشد حباً وعطفاً وحناناً وبراً بهم من البنت بوالديها.
بادلوها حباً بحب وشعروا أنها وهبتهم الحياة بجميع ألوانها الزاهية ومباهجها السارة. 
شهد لها القريب والبعيد، وسُطرت سيرتها العطرة بأحرف من نور، فلهجت الألسن في عزائها بأروع كلمات الثناء والذكر الحسن، وفاضت القلوب بصادق الدعوات.
فهاهي أم زوجها المرأة الصالحة الخيرة الورعة، تبكيها بحرقة وترثيها بحسرة، تذكر محاسنها الجمة، فتدعو لها بكل خير مكررة دعوة جميلة تفصح عن حب كبير وعرفاناً بالجميل: "اللهم إني راضية عنها فارض عنها" .

  قذىً بعينك أم بالعين عوارُ
أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدارُ

"أم مرام" غادرت دنيانا الغابرة وعادت إلى موطنها الحقيقي، وقد عاشت بيننا ملاك على هيئة بشر.!
عاشت حياتها حمامة سلام، ترفرف بجناحيها لتنشر الحب والتسامح بين الناس، مترفعة عن الأحقاد والضغائن، صامتة عن اللغو والطعن والشتائم.
لم تؤذ أحداً قط، فرحلت خفيفة الحمل لا لها ولا عليها، وقد حوت روحها قلباً ذهبياً، وسخاءً ربيعياً، حتى ضربت بجذورها في أعماق القلوب، وأصبحت شجرة طيبة تغدق بثمارها الرطبة الجنية حيثما سارت، وغيمة بيضاء نقية تسقي بغيثها أينما حلت.

حادثتها قبل شهر تقريباً، فرحبت وأسهبت في الترحيب، حتى أحسست وكأن موجات الأثير تردد ترحيبها.!
حدثتني بألطف العبارات وأرقها، ثم ودعتها ولم أعلم بأنه الوداع الأخير.!
أجزلت لي الشكر وبالغت في الإمتنان حتى أخجلتني وأشعرتني بأنني حزت لها الدنيا بأكملها. 
 رحم الله تلك الروح الراقية الزكية.

ذهبت لتأدية واجب العزاء بها غفرالله لها مع إحدى قريباتي، و في الطريق قلت لها: ألا ترين أن الموت ينتزع الأخيار من بيننا إنتزاعا.؟
ردت عليّ: بل إن الله يصطفيهم كي ينجيهم من الفتن المتلاطمة التي يموج بها عالمنا اليوم.!
فاطمأنت نفسي وتمتمت قائلة: نعم مثلك أيتها الفقيدة الحبيبة لا يموت أبدا، بل يستمر ويبقى في ابتسامات أولئك الذين أدخلتِ السعادة إلى نفوسهم، وفي قلوب من أسرتهم بلطفك فغمروك بحبهم، وفي أحاديث من عاشروك فطابت بفضائلك مجالسهم. مثلك يستمر دوما في دعواتنا وصلواتنا وابتهالاتنا.
ويبقى عزاؤنا في أن مثلك لا يودع الحياة إلا إلى حياة أبهى وأجمل وأبقى..
 ( في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر ) بمشيئة الله وفضله.

وختاماً نتضرع لله تعالى تيمناً بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في أرضه)، ونشهد للفقيدة رحمها الله بحُسن الخلق وطيب المعشر ولطف الحديث، وجميل الأفعال وسخاء العطاء، والتعامل الحسن، ودوام التبسم.

اللهم إنا نحبها فيك ونشهد لها بالخير وأنت بها اعلم منا، فارحمها برحمتك وتقبلها بقبولٍ حسن وأدخلها مُدخلًا حسنًا وأكرم مثواها، برحمتك يا أرحم الراحمين. 
اللهم أجبر أبنائها وبناتها ووالديها وزوجها ووالديه وكل من إفتقدها، جبراً يليق بك يا جبار، وأربط على قلوبهم وأجرهم في مصيبتهم وأخلفهم خيراً منها ياكريم.

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)


x

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق