وقتما دخلت القبر
بقلم: سارة العمري
كاتبة سعودية
دخلت
القبر كما ميمون بن مهران، حيث تروى كتب التراث أن التابعي الجليل ميمون،
كان دائم الإستعداد للموت، لدرجة أنه حفر قبراً في بيته، فكان يدخل القبر
قبل أن ينام، فيقرأ ويبكي طويلاً، ثم يخرج من القبر ويقول: يا ميمون ها قد
خرجت من القبر فأعمل صالحاً قبل أن تندم، وقد مررت الأسبوع الماضي بذات
التجربة، ولكن بطريقة أخرى وقبر مختلف..
فقد
تعرضت خلال الأيام الماضية، لوعكة صحية عابرة، مرت بسلام ولله الحمد
والمنّة، وكنت في أمسّ الحاجة لمن يقف بجانبي ويواسيني. فتحت هاتفي ونظرت
لقائمة الأسماء، فوجدت مئات الأرقام للأهل والأقارب، والأصحاب والأحباب،
والصديقات والزميلات.
ولكنني فجأة تراجعت عن الإتصال بأي منهم، أوطلب الإستعانة بأحدهم لمرافقتي للمستشفى، والوقوف بجانبي في هذا الموقف العسير.
ولكنني فجأة تراجعت عن الإتصال بأي منهم، أوطلب الإستعانة بأحدهم لمرافقتي للمستشفى، والوقوف بجانبي في هذا الموقف العسير.
تذكرت
حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لإبن عباس، (إذا سأَلت فاسأَل الله ، وإذا
استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء ،
لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم
يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف. )
ثم تذكرت ذلك اليوم الذي أذهب فيه بلا رجعة، ويتخلى عني القريب والبعيد، والحبيب والصديق، والأهل والمال والبنون.
( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ).
فأستجمعت
قواي، واستعنت بالله وتوكلت عليه، وقررت الذهاب بمفردي، لعمل الفحص
بالرنين المغنطيسي، والذي مدته ساعة ونصف، ولمن لا يعرف هذا الفحص المخيف،
فهو شديد الشبه بالقبر في ضيقه ووحشته وظلمته، ناهيك عن صوته المزعج، الذي
كأنه يطرق رأس الداخل فيه بالمطارق.!!
أدخلوني
غرفة الأشعة، وإذا هي كثلاجة الموتى لشدة برودتها، وقتها بدأ الخوف يتسلل
لقلبي، فقامت الأخصائية بلفّ جسمي "بشرشف" أبيض، وربطت رجليّ ويديّ، وثبتت
رأسي بحيث لا أستطيع الحركة أبداً، ثم أدخلتني في تلك الخلية المرعبة.!
فارتعدت
وارتجفت، وأخذت أقرأ ما أحفظه من آيات قرانية، وأردد ما أعرفه من أذكار،
وأسبح واستغفر واُهلل، وقد جف ريقي، واختل توازني، وخفق قلبي، وضاقت نفسي،
وانهمرت دموعي، وأحسست بوحشة وغربة، وألم وندم وحسرة.
وأنا
بتلك الحالة، تخيلت أنني أدخلت قبري، فحضر أمامي الموت وسكرته، والكفن
وقبضته، والقبر وضمته ووحشته، والملك وهيبته، والسؤال وحيرته، وهل سأجيبه
أم ينعقد لساني بالتأتأة، وانتابتني غصة مؤلمة، وخشيةً قاتلة.
تأتي
الآيات الكريمات في مثل هذه المواقف: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا
يَشَاءُ ).
بنفس
حالتي تلك، حيث رأسي مثبت بشكل متين، لا أملك أن أميل أو أتقلب، لم أقدر
إلا أن أتخيل نفسي أنني رفعت نظري للسماء، وقلت رحماك ربي، ياهل ترى من أي
الفريقين سأكون؟!
ثم
التفت عن يميني، فإذا بالجنة ونعيمها، وروحها وريحانها، وتساءلت : هل
سيفتح لي في ذلك اليوم باباً إليها؟ فأنعم برحيقها وسلسبيلها، والسعادة
الأبدية فيها..
ثم
نظرت عن يساري، فإذا بالنار وسعيرها، وعادت الأسئلة مرة آخرى، وكيف سيكون
حالي لو فتح لي باباً إليها؟ فمسني حرها وزمهريرها، وحميمها وغسلينها.
كل
هذه الخيالات والأسئلة تمر عليّ، وأنا ممدة داخل ذلك الكفن والصندوق
الطبي، لا أملك حراكا، إلا التفكر بمصيري، وأطلقت خيالي وأنا أنظر أمامي،
وأتساءل : هل سيمدّ لي في قبري مدّ بصري؟ أم سيضيق عليّ حتى تختلف أضلاعي؟
وفجأة صرخت دون أن أشعر، وأنا أبكي وأنتحب، ( رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ)..
كانت
الصرخة الأخيرة حقيقية، قلت بها وأنا أبكي وأبكي، وقد استحضرت كل المشهد
أمامي، وسمعت الطبيبة صوتي عبر "المايك" فأتتني، وهدأت من روعي وطمأنتني
بإن نتائج الفحص مطمئنة ولله الحمد.
وبشرتني بإنه لم يتبق من الوقت سوى خمسة عشر دقيقة، ففرحت، وارتاحت نفسي قليلا، وبت أسأل نفسي : أتعلمين أن الموت كأس وكل الناس شاربه ... والقبر بيت وكل الناس داخله، وإن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
وبشرتني بإنه لم يتبق من الوقت سوى خمسة عشر دقيقة، ففرحت، وارتاحت نفسي قليلا، وبت أسأل نفسي : أتعلمين أن الموت كأس وكل الناس شاربه ... والقبر بيت وكل الناس داخله، وإن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
وعدت
إلى تلك الخيالات التي يستحضرها المؤمن، وقتما تشتد عليه المحنة، وبت أسأل
وألوم نفسي: هل تفكرتِ في الموت وسكراته؟ وصعوبة كأسه ومرارته؟
هل
تعلمين أن الموت مُقرّحٌ للقلوب، ومُبك للعيون، ومفرقٌ للجماعات، وهادمٌ
للذات، وقاطعٌ للأمنيات؟؟ فيا للموت من وعد ما أصدقه ومن حاكم ما أعدله!!
أنقل لكم يا أحبتي ، كل التجربة التي مررت بها، والأسئلة التي جاءتني في حالتي تلك ، وكنت أقول: يانفس هل تعلمين ماذا بعد الموت..؟
إنها حفرة ضيقة، وظلمة دامسة، وغربة موحشة، سؤال..! عقاب وعذاب، ثم جنة أو نار.!!
يا نفس لقد أدمنت الذنوب ، وعصيت علام الغيوب، أما آن لك أن تتوبي ولربك تُنيبي؟!
لم
أصدق خروجي من تلك التجربة، وتذكرت ميمون بن مهران، وعرفت كيف أن أولئك
العظماء والأولياء لله، احتفظوا بإيمانهم وقربهم من الله، عبر مرورهم بمثل
هذه التجارب، وترددت كثيراً قبل أن أكتب عن هذه التجربة، ولكنني وجدت فيها
عظة وعبرة، أحببت نقلها لكم، فلعل غافلا يصحو من غفلته، أومعرضاً عن الطريق
يعود لجادته، أو ناسياً للموت يتذكره.
حقا، إنها لتجربة عميقة الأثر في نفسي، وسأعود إلى هذه الكتابة، لأتذكر الآخرة والقبر، تجربة اعتبرت منها واتعظت، لن أنساها أبدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق