الأحد، 12 مايو 2013

فكيف إذا كان الراحل أبي؟!

بإسم المجموعة البريدية ، نتقدم للزميلة سارة العمري، بوافر تعازينا في وفاة والدها يرحمه الله، نسأل الله له الفردوس الأعلى ، وأن يأجرها على مصابها.. عبدالعزيز قاسم


       فكيف إذا كان الراحل أبي؟!

سارة العمري
كاتبة سعودية

( هناك فراغات يتركها الراحلون، فراغات لا يمكن أن يملأها شخص آخر، فكيف إذا كان الراحل أبي؟!)
بين عشية وضحاها يختفي من حياتك، من كان سبباً في وجودك بالدنيا، يختفي ويترك خلفه آلاف الذكريات، التي حفرت في عقلك وقلبك، تتوهج وتومض بين حنايا النفس تلك الذكريات، تلذعنا بسوط  من الألم المضّني، لأننا نبحث عنه، ولا طريق أبدا إليه..فقد غادر دنيانا للأبد..
الأكثر ألما، أنه اختفى فجأة دون سابق إنذار، وهذا دأب الموت دائماً، يأتي على حين غفلة ولا يفرق بين كبير أو صغير!!
في ذلك اليوم الفاجع -الذي ظننت أن شمسه لم تشرق لتعلقي به- وقبل أسبوعين، جاءني خبر وفاة والدي يرحمه الله، أظلمت الدنيا، واسوّد الكون كله أمامي، ولم أع أبدا ولم أتقبل تلك الحقيقة.. غبت عن حاضري، وغامت الدنيا وأنا أتوجه نحو المستشفى، لا شيء يميزني سوى خطوات ثقيلة، وانهمار دموعي ..
أتيت المستشفى، لألقي عليه نظرة الوداع الأخيرة، وياله من موقف مهيب، ويا لها من لحظة تجعل رأس الطفل يشيب، وتوقد في القلب اللهيب.. اقتربت منه، وقمت بطبع قبلة على جبين والدي الحبيب، ولا أدري ، إلا بشريط يمرّ أمام عيني ، منذ وعيت على الدنيا وحتى المشيب..
 تذكرت حبه ودلاله لي، وأنا الأثيرة عنده، تذكرت عطفه وحنانه عليّ، وقلبه الكبير الذي يسع الدنيا، انثالت صور صدره الدافئ الوثير، آه ، كم كان عطوفا وكبيرا وحنونا، لم يجرحني يوما بكلمة، وكم حقق لي من أمنية، وكم جاد به من أعطية.
تذكرت مواقفه الأبوية معي، والتى لاتعد ولاتحصى، ولن أنسى ما حييت ذلك الموقف الذي سيظل عالقا في ذاكرتي  للأبد، فعندما كنت في الثانية عشرة من عمري، وفي شهر رمضان المبارك، وحرّ الصيف اللاهب،وطريق الجنوب الوعر، عندما ذهب مع والدتي رحمها الله، لأداء العمرة وبعد عودتهما ، هرعت لتقبيل  رأسه، غير أنني لم أتمالك نفسي فغلبتني الدموع الغزار، فسألني : "ليه تبكين؟"..
لم أستطع حينها الإجابة، غير أنه ككل أبّ، فهم السبب، وعلم  بأنني كنت أودّ الذهاب معهم للعمرة، ومنعتني هيبته ومكانته بنفسي أن أصارحه، وفوجئت بعد يومين فقط من مجيئه من مكة المكرمة، يقول لي: (هيا جهزي نفسك للعمرة)، أتذكر بعد كل تلك السنوات الطويلة ، أن الدنيا لم تسعني من الفرحة، وذهبت بي الخيالات لتلك الديار المقدسة، وانا أعيش أروع لحظات حياتي، وطوال الرحلة تملكتني مشاعر الفرح الغامر، لفتاة في الثانية عشرة من عمرها..
لا أنسى للان، منظر الحرم المهيب، والطائفين حول الكعبة، لأنها المرة الأولى في حياتي، أخذني من يدي بكل حنان الأب ، وطاف بي أرجاء الحرم، ولم يدع طابقاً الا وصعد بي إليه، وأراني منظر الكعبة من الأعلى، وذهب بي إلى كل ركن في الحرم، وانا سعيدة اقفز من الفرحة ، والدنيا لا تسعني، وهو لا يتذمر  أويمل، بل كنت أرى سعادتي مرسومة في عينيه..
 ستظل هذه الرحلة أمتع وأجمل رحلة في حياتي، كيف لا وأبي من ألطف الناس صحبة، وأحنهم قلبا، وأكرمهم يدا، وأمتعهم حديثا.
الذكريات تنساب الان وتتزاحم من ذاكرتي، ماذا أتحدث هنا، هل أذكر  اصطحابه لي في الرحلات البرية، أم رؤيتي له وهو يبكي، بدموع غالية عند زواجي.
هل أذكر صدى ترحيبه بي عندما أزوره بعدها، والسعادة التي ينطق بها جملته الجنوبية الشهيرة:  (ياهلااا ياالله حيّها ) ،وإبتسامة الفرح والرضى ترتسم على وجهه الوضيء.
أبي ياقرة عيني، وبهجة فؤادي، لقد فارقتنا جسداً، وروحك العطرة، ترفرف حولنا،وكلماتك ونصائحك القيمة نبراس ينير طريقنا، وسيرتك الطيبة منهجا لحياتنا،وذكرك الجميل تاج على رؤوسنا..
فلم يعزيني فيك رجل من أصدقائك وقرنائك، ولا إمرأة من قبيلتي، ولا أحدا يعرفك ، كبيراً كان أم صغيراً، الا وذكروك بجميل الذكر، وشهدوا لك بحسن الخلق، وكرم اليد، وسماحة الوجه، وطيب المعشر، وسلامة الصدر، وعفة اللسان، ودوام الوصل، ونظافة القلب، وصلة الرحم،  وحب الخير، والحكمة وصواب الرأي، وإصلاح ذات البين.
الناس شهود الله على خلقه، فهنيئا لك هذه الشهادة يا أبي..
مرت جنازة بالنبي صلى الله وسلم فأثنوا أصحابه عليها خيراً، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم وجبت،ثم مرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم وجبت فقالوا : ما وجبت يا رسول الله ؟
فقال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه )
إن البشر كل البشر لا يدركون قيمة ما يملكون إلا حين يفقدونه، وأنت –يا قارئ سطوري- لن تدرك قيمة أبيك الا حين تفقده، فأغتنم وجوده، ببره والإحسان إليه، وتمتع بحديثه والنظر إليه،
فإن تفقد ( أباك) فقد أغلق في وجهك باباً من أبواب الجنة.
إن تفقد ( أباك) فقد فقدت السماء التي تجود بنبع الحب والحنان..
إن تفقد ( أباك ) معناه الألم الدائم، والحزن العميق، والشعور بالضياع والوحدة، والفراغ والوحشة، واليتم والحرقة، إحساس لا يعرفه إلا من جربه وعاشه، إحساس لا يعرفه إلا من ذاق طعم الفقد ومرارة الرحيل.
رحمك الله يا والدي وأسكنك فسيح جناته، اللهم أني أستودعتك من بات في قبره وحيداً، اللهم إجعل أعماله مُؤنسةً له، وأجعله ينام قرير العين مُطمئن برضاك وعفوك يا أرحم الراحمين، اللهم إفتـح له باباً تهب منه  نسائم الجنة، وآنس وحدته ومد له في قبره مد بصره  يا أكرم الاكرمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق