"هو والدي أيضا يا صديقة العمر"
بقلم: سارة العمري
ما زالت ذكرى والدي تؤلم قلبي كلما مرت ذكراه أمامي، ولكن الانسان يتصبر بلقيا من كان يحبهم، أولئك الأصدقاء الذين اصطفاهم لأخوته في حياته، ولذلك كان من البرّ بالميت تفقد أصدقاءه والأنس بوجودهم..
بيد أن الصدمات تتوالى، فأقرب الناس له لحقه قبل أيام ، وكان بمثابة الأب لي أيضا، وابنته أعز صديقاتي، فحزنت كثيراً وتألمت أكثر لعدم قدرتي على مواساة صديقة الطفولة، ورفيقة الدرب وشقيقة الروح.، فأنا بعيدة عنها، بسبب تباعد الديار.
مصابي في العمّ "محمد" لا يقل عن مصابها، وحزني تجدد مع أحزانها، فجرحي لم يبرأ بعد على فراق والدي وهاهو يتجدد بفراق والدها.
صبراً -ياصديقتي الأغلى- فجرحنا واحد، وحزننا واحد، وفقيدنا واحد..فهو والدي أيضا..
ها هو اليوم قد لحق بصاحبه فلم يمكث بعده طويلاً، فقد اصطحبا صغارا وترافقا شبابا وتجاورا شيوخا ورحلا معاً، فجمعهم الله في جنته وشملهم بعفوه ومغفرته.
لا تحزني ياصديقة العمر: فقد كان الوالد -رحمه الله-عف اللسان واليد، سليم الصدر كريم النفس، لا يفجر في الخصومة، ولا يبالغ في الكراهية، فلم يخاصم قريباً ولم يؤذي جاراً، اعتزل الفتن، وترك الجدل، فأراح نفسه وصان دينه وكف عن أذية من حوله.
مؤتمراً بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:
( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَده ) ،فلم يتكلم في عرض أحد ولم يقتطع حق بشر، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله.
كان سديد الرأي حكيماً، لا ينطق بالكلمة الا في موضعها، لا يسب ولا يشتم، ولا يطعن ولا يلعن، فقد كان -رحمه الله- من الذين ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاما. ).!
قري عيناً –يا قسيمة الروح- وأهنئي بالاً فقد عاش رحمه الله بصمت ورحل بصمت، لا يطلب أحدا ولا يطالبه أحد، فهنيئاً لمن خرج من الدنيا كفافا لا له ولا عليه.
لن انسى -يا صديقة العمر- تلك المواقف التي عشناها سوياً معه -رحمه الله- وها هي تمرّ أمامي في شريط يعيدني لتلك السنوات الجميلة.
هل تذكرين – يا أنيسة النفس- عندما جاءكم من يخطب أختك الكبرى، وأراد والدك أن يشاوركم في الأمر، فوجدني معكم، وقد كان من أشد الناس حرصاً على أسرار بيته، فكان يتمثل في كل شأنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-
( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)، فنظر إليّ حينها وقال: أنتِ أبنتي مثلهم.!
وكأنه يقول لي: إن هذا الأمر سر، فلا يزال معلقا لا نعلم هل يتم أم لا وأنا اثق بأنك لن تطلعين عليه أحد.
وقد تم الزواج ومازال مستمر حتى اليوم، ووالله ياصديقتي، لم يخرج هذا السر من لساني الا الآن، إكراماً لتلك النظرة الأبوية الحانية، ولتلك الثقة الغالية.
لن أنسى أيتها الصديقة الوفية، عندما تقطعت بنا السبل لعدم توفر نقل مدرسي، يوصلنا لمدرستنا المتوسطة في قرية أخرى، فظننا ألا دراسة بعدها، فأخذنا نتحدث ونشتكي لبعضنا، فدخل علينا وقال: هل لديكم استعداد أن تذهبون للمدرسة بعد صلاة الفجر مباشرة، فصحنا فرحتين نعم.. نعم.
فكان رحمه الله يوصلنا لمدرستنا بعد الفجر، ويعود لعمله حتى الثانية ظهراً ثم يأتي لأخذنا، وأنا أتأمل شيباته الوقورة ووجهه المنهك، بعد عناء يوم طويل، مستمرا على هذا الحال حتى توفر النقل، دون تذمر أو شكوى.
معروفه لي في تلك المرحلة لن أنساه له، وسأظل أذكره وأدعو له ما حييت.
لن أنسى -أيتها الغالية- عندما كنت أتأخر أحياناً في الصباح، لأظفر شعري، وألبس مريولي، فأهرع وجلة إلى السيارة لمعرفتي بأنه رجل منظماً ودقيق جداً في مواعيده، يكره التأخير ولا يعترف بالانتظار، فيطالعني بنظرة عتب، ويشير إليك ويبتسم ويقول: لولاها لذهبت وتركتك.!
لن أنسى -ياصديقتي الحبيبة- عندما كان يفوز فريقه المفضل فيدخل علينا مبتسماً، ونحن نذاكر دروسنا فيغيظنا بحركته الشهيرة، حين يضرب إبهام بإبهام ويقول: بس بس.. بس.!، فنتضاحك أنتِ وأنا في براءة البنات، لتلك الحركات الجميلة منه رحمه الله.
لن أنسى ولن أنسى الكثير من المواقف التي لازالت عالقة بالذاكرة وستظل للأبد.
أبلغ حبيباً في ثنايا القلبِ منزلُه***أنّي وإن كنتُ لا ألقاهُ ألقاهُ
وأنّ طرفي موصولٌ برؤيته***وإن تباعدَ عن سكنايَ سُكناهُ
ياليته يعلمُ أنّي لستُ أذكرُه***إذ كيفَ أذكره ولستُ أنساهُ
رحم الله الوالد العزيز "أبا عزيز" وأسكنه فسيح جناته، وأبدله دار خير من داره، وأهل خير من أهله، وجار خير من جاره، واجعل اللهم القبر من خير منازله، والفردوس الأعلى مستقره وقراره.